العدمية كحالة أفريقية خاصة

تكمن فرادة حالة العدمية في أفريقيا كتاريخ وحضارة وشعوب في ارتباطها المتشعب بواقع دموي عنيف من جهة وصيرورة رؤى طوباوية من جهة أخرى، كما يعبر عنه كل من رواية "ذوي الجمال لم يولدوا بعد" للكاتب الغاني ايي كواي أرما وفيلم "آخر أيام المدينة" للمخرج المصري تامر سعيد.

للعدمية تجلي فريد قد جعل منها حالة أفريقية خاصة. فعمق الكامن الأفريقي، قدم التاريخ الإنساني نفسه، إقترن بالنسبة للأفارقة بوضوح إزدواجية الأمل واليأس في تكرار مستمر لمرحلية النجاح المبهر الذي يليه الفشل الذريع لتجارب سياسية إقتصادية وثقافية في أفريقيا شمالاً وجنوباً. تصبح إذاً العدمية تعبيراً عن حالة وجودية تختزل الواقع والمستقبل الأفريقي بشكل يعرفه الأفارقة معرفة كاملة.

ففي كل مرة ينهار فيها مشروع حقيقي للتغيير الإجتماعي، تصبح حالة العدمية ملموسة أكثر. بعد حركات التحرر وإستقلال معظم الدول الأفريقية وكذلك بعد ثورات الربيع العربي، تحوّلت النشوة بالحرية والحلم بالإمكانيات اللانهائية التي يحملها المستقبل إلى واقع كئيب من الفساد والبؤس والموت. ولكن رغم ذلك، ضلت ذكرى تلك التجارب المبهجة قوية الحضور داخل الكامن الأفريقي، لدرجة أن إحساساً قوياً بالتوق مازال يبعث في كافة أنحاء أفريقيا مثل النبض الطوباوي.

تشابك العدمية بحالتي الأمل والخبية، المعبَّر عنه غالباً من خلال مجاز وجه جانوس، لا يزال يميز وبدرجة كبيرة الفن الأفريقي الحديث بشكل يفكك إرتباط الحداثة الأفريقية بالخطاب الأفريقي التشاؤمي المنهك. الخمسون عاماً تقريباً التي تفصل بين فيلم المخرج المصري تامر السعيد “في آخر أيام المدينة” (2016) ورواية الكاتب الغاني آيي كوي أرما “ذوي الجمال لم يولدوا بعد” (1968) لم تمنع حدوث تطابق شبه كلي في التعبير الفني عن هذه الحالة العدمية الأفريقية الخاصة.

يسود بطل “في آخر أيام المدينة”، خالد (الممثل خالد عبد الله)، شعور مزمن بخيبة أمل مقترن بحالة خمول شديدة أمام المشاهد الكريهة للقاهرة المتعفنة على شفا إنهيار تام. تم تصوير فيلم السعيد في عام 2009 فيما تم عرضه في عام 2016، وهو فيلم يمزج بين العناصر الخيالية والواقعية لتقديم نظرة قاتمة للأيام الأخيرة لنظام حسني مبارك الإستبدادي وكذلك للفت الإنتباه بطريقة غير مباشرة إلى تدهور الوضع الإجتماعي والسياسي في ظل الحكم الدكتاتوري الحالي لخليفة مبارك، عبد الفتاح السيسي.

تتلخص حياة خالد اليومية في عبثية بحثه عن شقة جديدة في وسط القاهرة. هذه القاهرة أصبحت الآن مدينة عنيفة تتغذى على سكانها: الفشل والمرض والموت هي الجماليات التي تؤطر حياة خالد وكل من حوله، فيجد نفسه غريباً عن نفسه وشعبه ومدينته وحبيساً لحلقة ضيقة من الإنتماء الإجتماعي والمكاني. زياراته المتكررة لأمه المحتضرة؛ إنفصاله عن حبيبته ليلى؛ عدم قدرته على تحديد الإتجاه الفني لمشروعه الوثائقي؛ وصداقته المتباعدة مع صانعي الأفلام العرب الآخرين من بيروت وبغداد وبرلين يحملون نفس الحزن والهموم.

قبل نحو 50 عامًا، جعلت مركزية العدمية في “ذوي الجمال لم يولدوا بعد” من رواية أرما الأولى مثالاً نموذجياً لما أطلق عليه جو أ. أوبي الإبن “رواية خيبة الأمل”. نُشرت الرواية في عام 1968، بعد عامين من الإنقلاب الذي أطاح بحكومة الزعيم الغاني كوامي نكروما و11 عاماً بعد أن أصبحت غانا أول دول جنوب الصحراء الكبرى المستقلة، و في هذا السياق تصوّر رواية أرما الواقع المحبط لحكم نكروما الإستبدادي وتأثيره السلبي على العاصمة أكرا وقاطنيها.

تدور أحداث “ذوي الجمال لم يولدوا بعد” خلال الأيام الأخيرة من حكم نكروما قبل الإنقلاب العسكري، حيث نتابع كقراء الواقع اليومي البائس للرجل، البطل المجهول، الذي يرفض المشاركة في نظام الرشوة والعنف المتفشي حوله. هذا الرجل، وهو شخصية هامدة يستهلكها وعيها المنهك وشعورها المكبّل بالهوان، قد أصابته الخيبة من وظيفة لا يرى معنى لها، وغلب عليه الإشمئزاز من محيطه القذر. هذا بالإضافة إلى الخذلان من عائلته لرفضه التورط في صفقة فاسدة لشراء قارب صيد والتي كان من شأنها أن تفيد زوجته أويو، وحماته، وصديقه القديم كومسون الذي أصبح وزيراً فاسداً في حكومة نكروما.

 تبرز عدمية أبطال “في آخر أيام المدينة” و “ذوي الجمال لم يولدوا بعد” في تلاشي رغبتهم وقدرتهم على التصالح مع المجتمع الفاسد الذي يعيشون فيه، ووعيهم المكبل بإستحالة إحداث تغيير في حياتهم الشخصية والعالم البائس من حولهم. حيث يتجول كل من خالد والبطل المجهول في مدنهم في رحلة يومية بلا هدف، غير أن الشعور العميق بالعجز والإحباط الذي يسدوهم يضعف إمكانية تصنيف تجوالهم على أنه لاهَدَفيّة. فما يغمرهم بإستمرار هو عجزهم والسلبية الشديدة لرغباتهم وتوقعاتهم، وعدم قدرتهم على تكوين رؤية مغايرة ومتماسكة لما قد يبدو عليه العتق الإجتماعي.

يتعارض غياب قدرة الشخصيتين على التواصل مع العالم من حولهما، مع التعبير المكثف عن الكم الهائل من الإنطباعات والمشاعر والمشاهد الصوتية التي تم سردياً السيطرة عليها وإختزالها من خلال الإستعانة المتكررة بتصوير العين المخترِقة. فأثناء تجوالهم، يتكرر إهتمام الأبطال بالنظر إلى ما أصبح غير مألوف لهم ومتعفن في مدنهم في محاولة يائسة لفهم ما حدث لبلدانهم وشعوبهم.

إن العدمية لدى سعيد وأرما تحمل هوساً بالنظر إلى الخراب من خلال إطالة الوصف البطيء والمتسائل لكل ما هو عدمي و مقيت. فتقدم مثلاً القاهرة كمساحة سلبية من الفوضى والإنهيار من خلال مشاهد طويلة لمتسوّلين معوّزين وبلا أسنان، ومشاهد أخرى عديدة يتم فيها التركيز على المنازل والمباني المتداعية. في حين تسود رواية “ذوي الجمال لم يولدوا بعد” وصف مكثف للفضلات البشرية من براز وقيء. يفيض السرد الروائي بالبراز الذي ملأ الشوارع والساحات العامة أين “تختلط جميع فضلات الجسم مع طعم العفن” في حين يوصف فم كومسون بأنه “ذي رائحة دم الحيض الفاسد”.

كان متوقعاً إذاً أن يجذب هذا الهوس العدمي بالإشمئزاز والنفور إنتقادات شديدة لدى العديد من القراء والنقاد الأفارقة. فرغم حظر فيلم سعيد في مصر إبان صدوره، إستمر عرضه في أكثر من 120 مهرجاناً سينمائياً في جميع أنحاء العالم وحصل على أكثر من 12 جائزة دولية، وهو ما يرجح فكرة أن نجاح الفيلم يكمن في ملاءمته للسردية الغربية النيوكولونيالية التي ترى أفريقيا ككيان عدمي. هذا بالإضافة إلى  وجود تغليب لجماليات الصحراء ذات اللون الأصفر والبني الغامق التي تم من خلالها تصوير القاهرة ومشاهد الوسخ وإنهيار المباني كنوع من الواقعية القذرة، مما يعزز الصورة المتداولة لمصر وأفريقيا بشكل عام كمساحة قاتمة من التعفن والموت. هذه الجماليات المنفرة نجدها كذلك حاضرة بقوة في رواية أرما مما دعا الكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي أن يطلق على رواية أرما صفة “الكتاب المريض”، وإلى نقد مركزية الإستعارات الأجنبية. .

هذه الإستعانة بالإستعارات الحداثوية الأجنبية تغلب على كلا العملين الفنيين. ففي فيلم سعيد يتدخل المخرج بشكل مباشر في الكثير من المرات ليجلب الإهتمام لأقواس سردية مختلفة على حساب بناء غير مكتمل لعدة شخصيات مهمة. كذلك تتحول رواية أرما بشكل مفاجئ إلى نمط المقالة للإشارة إلى معطيات تاريخية وسياسية مطولة ومباشرة. يخالف إذاً كلا العملين مراراً وتكراراً النسق الروائي في محاولة إخضاع صريحة ومزعجة أحياناً للسرد الفني، فقد رأى مثلاً ديريك رايت في نقده لرواية أرما بأن هناك “رؤية متجانسة” في الرواية. وهذا التعبير ينطبق على كلا الكتابين، فقد أدت هذه الرؤية المتجانسة إلى خلط كبير بين المؤلف والراوي والبطل بشكل أدمج وجهات النظر المختلفة الفعالة في هذه الأعمال الفنية إلى رؤية سياسية سلبية موحدة لهؤلاء الكتاب الذكور. وهو ما أدى إلى غياب أي رؤية بديلة ومولدة لمستقبل مختلف في أفريقيا. هذا التداخل بين الفني والإيديولوجي في فيلم سعيد ورواية أرما أدى بنتائج عكسية وفشل في إقناع جمهوره بمزاياه.

لكن الجانب الأكثر إشكالية في فيلم سعيد ورواية أرما هو الدور السلبي للمرأة. فكما كتب جون بيرجر في كتابه “طرق الرؤية”، “الرجال يفعلون والنساء يظهرون”. لم تتقمص كل من ليلى وأويو أي أدوار مهمة، عدا تأثيث العوالم الخاصة للشخصيات المحورية الذكورية والتخفيف من قلقهم الوجودي. بالرغم من أن ليلى تسعى لإتمام إجراءات الهجرة للبحث عن مستقبل أفضل، و تصر أويو على إتمام صفقة كومسون بإعتبارها فرصة سانحة لتحسين الظروف المعيشية لعائلتها، فإننا لا نعرف شيئاً يذكر حولهما فهم بالكاد يتحدثن ويندر الإشارة إلى ما يقومون به على الصعيد الشخصي. بدلاً من ذلك، يقتصر دورهما على مساعدة خالد والرجل على التصالح مع أنفسهم. زيارة ليلى لشقة خالد وتقبيلها له قبلة أخيرة كانتا كفيلتين بإنقاذ خالد من الوقوع في براثن اليأس والإنتحار. في مشهد أخير من “في آخر أيام المدينة”، هناك إنطباع قوي بأن خالد قد فكر في محاولة الإنتحار بالوقوف بالقرب من النافذة لكنه قاوم تلك الفكرة بسبب طاقة الأمل الجديدة التي بثتها فيه حضور ليلى وحبهاً له. هذه الرغبة من جديد بمستقبل أفضل طبّعت نهاية “ذوي الجمال لم يولدوا بعد” حيث يقع الرجل في حب زوجته مرة أخرى فقط لأنها سعدت برفضه الهروب مع كومسون إبان الإنقلاب العسكري الذي أطاع بحكم نكروما، بعد أن كان ينفر منها ومن جسدها بسبب ندبة كبيرة في بطنها بعد عملية ولادة قيصرية.

رغم التعبير المكثف عن الخيبة والإشمئزاز في كلا العملين الفنيين، هناك حضور هامشي ولكن فريد للرغبة في الثورة والتغيير. في كل مشهد من “في آخر أيام المدينة” هناك تذكير بالقوى الثورية التي ستطيح فيما بعد بديكتاتورية مبارك. هذا الإصرار على الأمل والرغبة في التحرر من الإضطهاد النيوكولونيالي الجديد عبرت عنه “ذوي الجمال لم يولدوا بعد” في خاتمتها بينما يتأمل الرجل عملاً فنياً ساحرا: “تم تفتيح الطلاء الأخضر بنقش مكتوب بحروف دقيقة شكلت رسماً بيضاويا: “ذوي الجمال لم يولدوا بعد”. في وسط الشكل البيضاوي كانت هناك زهرة واحدة، منعزلة، غير قابلة للتفسير وغاية في الجمال.” نعلم طبعاً الآن أن تلك القوى قد هُزمت، وأن هناك نظم نيوكولونيالية جديدة أكثر إستبداداً في أفريقيا، لكن تلك الطاقات الثورية سترى النور من جديد وستتحول مرة أخرى إلى ثورة خلاقة لأن القاهريين والأكريين والأفارقة عامة لا يزال لديهم ذكريات خالدة لما يمكن أن يكون عليه واقع أفضل وأجمل.

 إن العدمية تختلف عن اليأس، وقطعاً عن الخذلان. ففي مركزية العدمية في “في آخر أيام المدينة” و “ذوي الجمال لم يولدوا بعد” تجسيد غير تاريخي وغير مكاني لليوتوبيا اليومية في أفريقيا. العدمية ليست نهاية الأحلام. إنها النار في المرة القادمة.

Further Reading